أتعرض طول النهار لاستفزاز، من خلال هجوم تليفوني منظم، وبدقة جعلتني أشك أنه مخطط أجنبي لاستهدافي في عقر داري، و"أنا كافي خيري شري" في بيتي منذ سنوات..
البداية جادة من شخص يوحي لك، وبثقة شديدة في معرفتك الوثيقة به، ومنذ مئات السنين، مع قليل من همس وهمز، وود ولمز، مع رقة ودلع (إذا كان صاحب الصوت من بنات لسه متجوزوش)!! المهم وبعد دقيقة واحدة، أقنعوني فجأة بأنني بقيت مستر يسري، من كثرة تكرارها.. أقول في نفسي: الحمد لله أحسن من لقب الحاج، الذي يطاردني به كل من أقابله الآن، وكنت أقنع نفسي به باعتباره أحسن من لقب "جدو" الذي يطارد به بعض الأصحاب، الذين سخروا مني عندما شكوت لهم وطأة لقب حاج، الذي يشعرني أن عندي ١٥٠ سنة.. لماذا؟ لأن قائله لا يعني البعد الديني للقب، لكن يقصد الرجل الكبير "البركة".. يرد علي أصحابي بسخرية: من شاف لقب غيره "جدو" هان عليه لقبه "حاج"!
المهم تنط الأصوات الواثقة والشقية والحلوة من الموبايل، وتجعلني أشعر في بداية المكالمة بالنشوة، وفي نهايتها بأنني واحد من أهل الكهف الذين "لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعًا".. يبدؤون مهمتهم بالهجوم "الساحق الماحق"، ويعرضون شققًا وفيلات بـ ٢٠ و٣٠ و٤٠ و٥٠ مليونًا من الجنيهات، ثم البشرى الكبرى بعدم وجود مقدم، ويصمتون حتى تلتقط الفريسة الطعم (أنا طبعًا).. وحين أسألهم عن كيفية السداد.. يجيبون بتثاقل: بدفعات ربع سنوية عدة ملايين، وقسط شهري ١٥٠ ألف جنيه وانت طالع! أستمع لهم في صمت ووجع ولوم لنفسي في آن واحد.. لماذا؟ لإضاعة وقتهم الثمين مع أمثالي. لكن يعزيني أنني حاولت إقناعهم بالتوقف، لكن لا جدوى حتى يحققوا هدفهم في اختراقي، ومهما أحاول إقناعهم لا يقتنعون، ولا يصمتون عن ثرثرتهم، حتى أوجه لهم"القاضية" القادرة على إنهاء المكالمة في "التو واللحظة" بقولي: يا بنتي، عندكم حاجة تناسب صاحب معاش ألف جنيه في الشهر؟ ولو فيه أنا مستعد أدفعه كله، ومش مهم آكل ولا أشرب ولا أتعالج حتى! أشعر برنة صوت مغموسة بحسرة وندم، على إضاعة وقتهم مع من كانوا يظنون أنه كنز ثمين "مستر" بقى، فيطلع مجرد "حاج" ومعاشه ألف جنيه كمان! المهم، لا أخفيكم سرًّا أنني استمتعت لبعض الوقت بلقب "مستر"، والتعامل معي باعتباري من أصحاب الملايين أو المليارات، لكن صدمتي الكبرى حين هاجمتني عبارة من الشاطئ الآخر للمكالمة: شكرًا يا حاج!!
وبعد أن حاولت استرداد نفسي، اعتدلت في جلستي، كمن يحاول اتخاذ قرار خطير (ما أنا بقيت "مستر يسري" بقى)، وسألت نفسي بوجع: ماذا تفعل أمام هذا الهجوم الكاسح والمتكرر الذي لا يتوقف يا حاج يسري؟ ثم يوسوس لي شيطاني اللعين المرتدي زي "مستر يسري": اشترِ نفسك وخذ لك فيلا وخلاص.. يقهقه الحاج يسري ويتراقص أمامي قائلًا: مش مهم.. ادفع قسطها بكل معاشك الشهري، ومش مهم تسافر مرتين كل شهر باريس وجنيف، أو لندن وفرانكفورت..
حد ينصحني.. دماغي ح ينفجر!!
فقاعات سعرية
سؤال بريء جدًّا: الأسعار المغالى فيها في أسعار الشقق والفيلات، ولا تتناسب مع قيمتها السوقية الحقيقية، والتي سيترتب على شرائها الاقتراض من البنوك بضمانها، ثم رهنها للبنوك وشركات التأمين.. تعالوا نفكر في الحلقة القادمة من هذا السيناريو، وهو عجز نسبة كبيرة من المشترين عن سداد باقي الأقساط بعد دفع ما لديهم، فيتم الحجز على الوحدات، تمهيدًا لبيعها مرة أخرى.. ووقتها سنجد أسعار الوحدات قد تهاوت بفعل الأزمة من جهة، ومن جهة ثانية بعد أن نزلت قيمتها إلى أقل من قيمتها السوقية.. ترى من يتحمل هذه الخسائر؟
طبعًا البنوك وشركات التأمين؛ لأن المطور العقاري أخذ فلوسه وطار!
ويكون السؤال التالي: من يتحمل خسائر البنوك وشركات التأمين؟
طبعًا المودعون في البنوك وشركات التأمين الذين "لا ناقة لهم ولا جمل".
ولأن الكل سيمسك في رقبة الحكومة التي لا ذنب لها، لا استفادت منهم وهم يبيعون، ولا فرحت معاهم وهم بيشترون، ولا شافتهم وهم يسكنون، يعني ماشافوهمش وهم بيسرقوا، لكن شافوهم وهم بيصرخوا!!
فتضطر الحكومة لحماية حقوق المودعين البسطاء، الذين لا ذنب لهم ولا جمل، تعويض خسائر البنوك، بمنحهم تعويضات عن طريق البنك المركزي أو وزارة المالية.
المهم الفائز الوحيد هو المطور العقاري، سواء كان مصريًّا أو أجنبيًّا، الذي جاء بخطة إقامة مشروع سكني، فأخذ قروضًا من البنوك المصرية؛ كي يبدأ مشروعه بضمان الأرض التي لم يسدد ثمنها للحكومة بعد، أو على الأقل دفع مبلغًا بسيطًا للتخصيص، ثم قام بحملات إعلانية ليجمع الأموال من المشترين قبل البدء في مشروعه، وبها يبدأ ويستكمل مشروعه اذا كان جادًّا، ويسلمه بعد 4 سنوات إذا كان ملتزمًا، ويخرج هو بالأرباح، بعد أن يكون "دبس" البنوك وشركات التأمين والمشترين في البيعة.. إلا ما رحم ربك!!
نفس السيناريو بالملي و"كوبي وبيست"، ولا نتعلم منه.. أقصد ما حدث في الأزمة الماليه العقارية الأمريكية، وأصابت العالم كله بآثارها، واضطرت الحكومة الأمريكية لضخ أكثر من 800 مليار دولار للمؤسسات المالية؛ للتخفيف من أثر الأزمة، التي انتقلت آثارها لتصيب أسواق المال العالمية، ونالنا منها كعرب بعض النصيب.
هل نتحرك قبل فوات الأوان؟!
هوامش في المتن
الناس م بقتش طايقة بعض.. كله بيزعق في كله.. كله صوته عالي.. كله بيتخانق مع "دبان وشه".. يا رب استتووووور!!
قال ايه فاروق حسني م كانش عاجبنا.. الله يرحمك يا "مرات أبويا اللي عرفتيني قيمة أمي"!
فلسطين من النهر إلى البحر، ولو كره الكارهون أو خاصمتنا الظروف!!
-------------------------
بقلم: يسري السيد
[email protected]